((لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ …)) لحظة تدبر

د.أمل الأسدي

لا شك أن الدين يهدف إلی خدمة الإنسان والسعي إلی رقيه وتحضره وحفظ كرامته، وبعيدا عن الخوض في الواقع بين النظرية والتطبيق، ستبدأ لحظتنا من حياة الفقير و واقعه، فواقعه مختلفٌ عن غيره، واقع عامرٌ بالكرامةِ والتوكل علی الله، واقع يرتدي عِزّةَ النفس، ويتنفّس التسليمَ لله، وقلبه ينبض أملا بالله ورزقه الواسع، وأبوابه المُفتّحة، واقع الفقراء الذين يعيشون برأسٍ عالٍ، ويدٍ مبسوطة، وابتسامةٍ ناضجة، فصباح الفقراء كظهيرتهم اللذيذة،إذ يعود الفقير وبيده بعض ما تحتاجه الأسرة من قوت، وكأنه يحمل جنةً صغيرةً لا بل كبيرة…فهو يحمل الحلال!!

لقد تحدث الباري عزّ وجل عن الفقراء في قوله تعالی: ((لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)) (سورة البقرة، الآية :٢٧٣) فصوّرهم وصوّر وعيهم العالي، فهم لايطلبون حاجاتهم من مخلوقٍ ضعيف، ويتركون الخالق العظيم الذي خلقه وخلقهم!!
هولاء الفقراء الذين يتنفسون كرامةً، يظهرون دوما بحال الغني الميسور، ويحافظون علی ماء وجوههم، وقد حفظ الله كرامتهم ورفع شأنهم حتی في الخطاب وسياقه الوارد في الآية، إذ حذف المبتدأ( الصدقات) وأبقی متعلق الخبر، كي لا نقول ونردد :” الصدقات للفقراء” وحتی لاتصل كلمة” الصدقة” الی مسامعهم، فتؤذيهم وتكسر هيبتهم، وتسفح ماء وجوههم، وتبدد كرامتهم، وحتی يربينا القرآن الكريم علی العطاء من دون مَنٍّ ورياء، ويربينا علی ابتلاع أي كلمةٍ تجرح الإنسان وتنال من كرامته، وهذه التربية القرآنية تبني الذوق الإنساني، وتدعم الخُلق الرفيع، وتسعی الی تنظيم الحياة وإشاعة العدل من دون أن تُمَسَّ كرامة الفرد!
وهذا يحيلنا الی الواقع الذي نعيشه، إذ نری إذلال الفقراء والمساكين عبر تصويرهم وتوجيه الأسئلة الجارحة لهم، أو حثهم علی شكر فلان أو فلانة أو مدح صاحب القناة الفلانية والدعاء له، أو الطلب منهم بأن يظهروا حسرتهم وحاجتهم وتوظيف ذلك سياسيا، وغيرها من الطرق التي تهين الإنسان وتعتدي عليه وتستغل حاجته!
وهذا بعيدٌ عن التربية القرآنية والسلوك القرآني الذي يحرص علی حفظ هيبة الإنسان، وصون كرامته إلی الحد الذي وصل إلی إخفاء كلمة”الصدقات” من السياق رعاية للإنسان!

ونجد مثل هذه التربية القرآنية والسلوك الإنساني في الحياة العملية للرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) ومن ذلك ماقدمه الإمام السجاد(عليه السلام) في خطابه ودعائه وسلوكه، إذ اهتم بتنمية الذات، وتشجيعها، وتقوية أملها بالله تعالی، وحده لاشريك له، فهو الخالق وهو الفتاح الرزاق الكريم العليم، فقد قال: ((اللَّهُمَّ، وَلِي إلَيكَ حَاجَةٌ قَـد قَصَّرَ عَنهَـا جُهدِي، وَتَقَطَّعَت دُونَهَا حِيَلِي، وَسَوَّلَت لِي نَفسِي رَفعَهَا إلَى مَن يَرفَعُ حَوَائِجَهُ إلَيكَ، وَلاَ يَستَغنِي فِي طَلِبَاتِهِ عَنكَ، وَهِيَ زَلَّةٌ مِن زَلَلِ الخَاطِئِينَ، وَعَثرَةٌ مِن عَثَراتِ المُذنِبِينَ، ثُمَّ انتَبَهتُ بِتَذكِيرِكَ لِي مِن غَفلَتِي وَنَهَضتُ بِتَوفِيقِكَ مِن زَلَّتِي، وَنَكَصتُ بِتَسـدِيدِكَ عَن عَثـرَتِي وَقُلتُ: سُبحَانَ رَبّي كَيفَ يَسأَلُ مُحتَاجٌ مُحتَاجـاً، وَأَنَّى يَرغَبُ مُعدِمٌ إلَى مُعدِم؟! فَقَصَدتُكَ يا إلهِي بِالرَّغبَةِ، وَأَوفَدتُ عَلَيكَ رَجَائِي بِالثِّقَةِ بِكَ، وَعَلِمتُ أَنَّ كَثِيرَ مَا أَسأَلُكَ يَسِيرٌ فِي وُجدِكَ، وَأَنَّ خَطِيرَ مَا أَستَوهِبُكَ حَقِيرٌ فِي وُسعِكَ، وَأَنَّ كَرَمَكَ لاَ يَضِيقُ عَن سُؤَالِ أحَدٍ، وَأَنَّ يَدَكَ بِالعَطايا أَعلَى مِن كُلِّ يَد…)
فيفتح بدعائه الباب لكل من ظنّ في لحظةٍ ما، أن حاجته بيد فلان من الناس، ليعود إلی ربه، الی الله تعالی.
ثم يضاعف الإمامُ جرعةَ التربية، فيشكر الله الذي ذكّره وأعاده إلی رشده وأنقذه من عثرته وغفلته!! فحتی ذكرنا لله وشكرنا وتوبتنا تستدعي شكرا آخر عليها !! فلولا توفيق الله ما عدنا ولاذكرنا ولادعونا!!
ثم يوجه الإمامُ(ع) لنا صعقةَ أملٍ جديدة تعيد فينا النبض، وتمنحنا الاستمرار، متمثلةً في معرفةِ أن كلّ ما نحلم به، ونرجو تحققه، ونراه أمرا مُعجِزا وخطيرا، أن كل ذلك هو شأن يسير حقير بسيط بإزاء قدرة الخالق العظيم!! وماعلينا إلا أن نفعّل ثقتنا بربنا، ونتوكل عليه، ونتوجه إليه، ليفتح لنا أبواب خيره، ويبقينا علی قيد الفطرة السليمة، والذات المتزنة، التي لا تميل الی الإفراط فتتورم ويغتالها الوهم!!
ولا تميل إلی التفريط فتضعف وتهون وتبتلعها الدونية!!
فما أجمل هذه التربية!! وما أعظم قلوب الفقراء!
وما أعمق وعيهم!

ــــــــــــــــــــــــــــــ

المزيد من المشاركات
اترك تعليقا