عملية طوفان الأقصى

بسم الله الرحمن الرحيم
“إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ”
من سورة آل عمران الآية 160.

‏عملية طوفان الأقصى أفرزت معركة وجودية بما للكلمة من معنى وفي فترة وجيزة خرجت من سياقها التكتيكي إلى الأهداف الاستراتيجية بتداخل عوامل عدة منها الإقليمي والدولي وبحجمها الذي حركت به العالم مع هذا ستخرج منها الفصائل الفلسطينية والمحور بنتائج مهمة وتجربة تضمن لهم بالحد الأدنى فرض لشروط جديدة لقواعد الاشتباك، بل وتحديد محطات للحرب والسلم بعد أن ثبت ضعف الكيان وهوانه، وفق ما أثبتته الحقائق الميدانية منذ بداية المعركة بسقوط خط الدفاع الجنوبي للكيان لتبين دجل ما كان يسوق له إعلاميا.

أخذت القضية الفلسطينيّة في هذه المعركة مآلات لم يكن أحد يتصورها أو يتوقعها بما حصدته من دعم كبير من الرأي العام الدولي ومن بعض الحكومات التي تعاطفت مع ما حصل من إبادة لهذا الشعب أمام مرئي ومسمع الجميع وانقسام الرأي العام بين مساند لقضية إنسانية وحقوقية تستحق الوقوف معها و تمثل الاغلبية حسب متابعة مراكز للاخصاء وبين من يقف مع كيان جسد كل معاني الإجرام في حق الإنسانيّة.

كما تبين أهمية الدعوة لمقاطعة الشركات الداعمة لكيان الصهيوني وبضائعه والاستجابة الكبيرة في الدول الغربية والعربية والإسلامية وحجم التأييد الذي فاق التوقعات وأعطى مردودًا مهمًّا، وفق الأرقام المعلنة عن الخسائر المسجّلة.

بهذا استرجعت القضية الفلسطينية زخم ما فقدته من شرعية وتأييد منذ انطلاق مسلسلات التطبيع وما كان من مسار أوسلو، حين اعتبرت جهات عديدة عبر العالم أنّها لن تزايد عمّا تتخذ السلطة الفلسطينيّة من مواقف مهادنة.

نتائج هذه المعركة كثيرة منها الداخلي بانكشاف خطورة جماعة أوسلو وبقاياها كما أظهرت انتهاء مشروع حل الدولتين و قطعت الطريق على الاستيطان وفتحت أبواب الهجرة المضادة من الكيان ليبقى هذا الانتصار من أهم ما حصل ويجمع في نتائجه بين التكتيكي والاستراتيجي.
خارجيا، أظهرت معركة غزة أن تفاعل فلسطيني المخيمات في لبنان وسوريا والأردن ومصر، دون ما هو مأمول، حين اكتفى بمسيرات المساندة والتنديد حين كانت بقية أطراف المحور تقف بكلّ قواها، وعبر جميع الوسائل الممكنة، لإشعال الجبهات الأخرى.

كما كشفت هذه المعركة حقيقة الربيع العبري وأهداف مدعيه حين استطاعوا حشد عشرات الآلاف للقتال في سوريا وأصدروا في الأمر من الفتاوى ما جعل هذه المشاركة واجبا شرعيّا، في حين لا نسمع لهم صوتا ولم نرى لهم فعلا مهما كان هيّنا.

من إفرازات حرب غزة أن عرّت أنظمة عميلة حدّ النذالة كتركيا والإمارات وشعوبا وسياسيين ومثقفين وعمائم وإعلاميين وفنانين ورياضيين، الذين تراوحوا بين صمت فاضح وتواطئ مكشوف. ويرجع هذا لخطورة التوغل الصهيوني الأمريكي داخل عمق النسيج الاجتماعي والفضاءات العربية ومؤسسات الحكم.

معركة غزة ثبتت لنا نهاية مشروع إسرائيل الكبرى وبداية زوال الصغرى وان الحتمية التاريخية تحكم بمجريات الأحداث وان كان هذا الكيان يحاول إعادة تشكيل الوعي العربي عبر غطاء لجمعيات غربية وإماراتية وبمنابر قطرية كما اتضح للجميع مدى مصداقية الإعلام وحجم تدجينه واصبح ضرورة ملحة إيجاد بدائل قادرة على التأثير في ساحات الحروب الناعمة المكشوفة وفكاك قيود كي الوعي في العالم العربي بالخصوص.

هذه الحرب كشفت لنا تعبيرات وجه الإسلام المهادن للحكومات ومتطلبات الإسلام المقاوم ومستقبل وجوده وضحالة الأحزاب السياسية في العالم العربي وأظهرت لنا أنّ تفاعل الفرد في المجتمع العربي حالة عابرة يحتاج فيها لإعادة تأصيل للمشاعر وتأهيل للوعي ليستدرك متطلبات القضايا المصيرية التي تستهدفه في كيانه.

‏شكّلت المعركة في عمقها وبكل تعبيراتها حائط صد أولي يجب أن يمنع الانهيار للبديل المتوقع الذي تتطلع إليه الشعوب بمنظار الخلاص لتتحرر من قيود الهيمنة والاستكبار.
‏مع حجم المعركة ودقتها كان القليل ممن يعرف بخفايا الأمور وعلى يقين بانتصار المحور وكان العقل التحليلي أمام احتمالين إمّا الانتصار أو الانكسار لا قدر الله.

من الواضح ان ترجيح الانتصار بما يملكه المحور من أدوات للتدافع الإستراتيجي الذي خططت له عقول تتقين حياكة السجاد بإبرة النانوي، رغم إصرار البعض من المثبطينن على التشويش على الانتصارات والتشكيك في حدود المعياري للنصر بدعوى عدم التحكم للإطلاقات اللفظية الإعلامية والشعارات الشعبوية.

‏ربما ما خفي عن اغلبنا من مؤشرات مفتاحية للنصر وكان الرهان عليه لم يكن يكمن في القوة العسكرية حين نعرف أن الفرق كبير بين امكانيات الظالم والمظلوم بل كان الرهان على البعد العقائدي والشكل التنظيمي للمحور الذي عصمه من التشظي وحماه من الاختراقات ومنحه اتساقا أوصله إلى انضباط في الأداء الميداني، والتحرك بروح جهادية متوثبة، لم تنكسر في معارك سبقت غزة، في تموز وسيف القدس حينها كان يقيننا أنّنا أمام أنموذج مقاوم غير معهود في الحالة العربية المعاصرة عرفناها فقط مع حروب التحرير من زمن الاستقلال.

‏مع حرب غزة اتضح للجميع أنّ قيادة سياسية حكيمة تملك رؤية ثاقبة ببصيرة نافذة وفهم عميق لمفاصل النظام الدولي وتداخلاته الإقليمية، قادرة على المناورة والإيقاع بالعدو والتحرك في الهوامش المتاحة للانتصار في التكتيكي والاستراتيجي الذي يتوقعه البعض من اختصاص وقدرة الكبار ومراكز دراساتهم دون سواهم.

‏من بركات معركة غزة أنّ حاضنة شعبية أصبحت ممتدة في العالمين العربي والإسلامي، ترى في مشروع المقاومة خلاص وتبدي استعدادا للانخراط فيه وهذه الحاضنة أبدت صبرا واحتسابا في ساحة المعركة وخارجها مما جعل الرأي العام يتساءل أي جنس من البشر هؤلاء ومن أين تمكنوا من هذه القوة للصمود والتضحية؟!

‏كما ظهر في هذه المعركة تفوق أخلاقي سامق عزز نظرية أنّ الأخلاق والإنسانية جزء لا يتجزأ في الحروب وبالفعل الصادق للمحور انكشفت الامور وتبينت الصورة العكسية بحجم اجرام الكيان والوجه القبيح لحليفه الشيطان الأكبر وازدواجية تعاطيهم مع معاير حقوق الإنسان والقانون الدولي وسنسمع الكثير في القادم من الايام عن ملفات ستفتح في المحاكم الدولية جراء ما اقترفه هؤلاء في غزة من تجاوزات وإبادة جماعية للمدنيين الأبرياء.

في المستجدات شهد وجدان البعض من نخبنا ردّة فعل متوقعة. تعالت فيها الأصوات بالدعوى للكفران بالغرب جملةً وتفصيلاً بمناهجه وفلسفاته بقيمه ومواضعاته بنظمه وأساليبه ومقارباته. كما شهدت ساحة العديد من الأكاديميين في جامعات مرموقة في الدول الغربية نفس التجاذبات بما حصل في النزاع الفلسطيني الصهيوني الأمريكي.

ما خصل هو عبارة عن تحولات جوهرية في منظوره السياسي ومواقفه الأخلاقية إزاء القضية الفلسطينية وهذا من الانتصارات المهمة التي تحسب في هذه المعركة يمكن أنّ تستثمر لصالح القضية الفلسطينية العادلة بعد أن يتم ترميم الصف الداخلي للفلسطينيين وتطهريه للانطلاقة من محصلة انكسار جبروت الصهيونية في اغلب الميادين والساحات.
في الملخص أنّ المحور عبر منعطفا هو الأخطر في تاريخه، أنهى بهذا مرحلة ولادة عسيرة صنعت منه وله مرحلة جديدة في المنطقة قفز بها لعالمية حركات التحرر، وعلى عقلاء العرب أن يعيدوا تموضعهم استعدادا لمرحلة المتغيرات القادمة يكون الأمل بها. على ما يجري سيصبح تاريخ طوفان الأقصى فرصة للكثيرين في مراجعة قراءتهم ومواقفهم بما يخص تحرّر الشعوب ووسائلها.

كما اتّضح أنّ العولمة سيف ذو حدين ويوم لك ويوم عليك. وبما حصل، تأكد الجميع أنّ فطرة الإنسان تميل لقيم العدل ومهما طغى الظالم يستحيل ان يطمسها.
-حسن فضلاوي-

المزيد من المشاركات
اترك تعليقا